باب الکعبة المشرفة قبل الإسلام

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم المساعد - کلية الآداب – جامعة عين شمس

المستخلص

بعد نزوحهما من أرض فلسطين إلى بلاد الحجاز، قام إبراهيم الخليل وولده إسماعيل - عليهما السلام – برفع قواعد الکعبة المشرفة[1]، بأمر من الله تعالى، وهو أمر ثابت بما لا يدع مجالاً للشک، في القرآن الکريم، والسنة النبوية المقطوع بصحتها، في الصحيحين، وغيرهما من کتب السنة، وليس هناک من المؤرخين من عارض في ذلک على الإطلاق.
والکعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس، کما جاء في قوله تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببکة مبارکاً وهدى للعالمين"[2]، ليکون قبلة للناس، ويعبد الله تعالى عنده، وکونه أول بيت وضع للناس بمکة، المراد منه الکعبة المعظمة، فهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم مطلقاً[3]، وإنما اختلفت الروايات في أول من بنى الکعبة، وکذلک في عدد مرات بناءها.
وجزم الإمام ابن کثير وغيره من العلماء، أنه لم يجيء في خبر صحيح عن الرسول الکريم صلى الله عليه وسلم أن البيت کان مبنياً قبل الخليل عليه السلام[4]، وإن کان قد حصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان، کما ذکر الفخر الرازي: "الأول: أنه أول بيت في البناء والوضع، وأصحابه يستندون إلى بعض الأخبار الموقوفة من قول بعض الصحابة والتابعين[5]، ويرون کذلک أن الکعبة المشرفة قد بنيت عدة مرات قبل بناء إبراهيم عليه السلام[6]، والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال، والقول الثاني: أن المراد من هذه الأولية کونه مبارکاً وهدى للخلق"[7].
وقد ذکر الحافظ البغوي، عن مجاهد، أنه قال عن تسمية الکعبة المشرفة: "سميت کعبة لتربيعها، والعرب تسمي کل بيت مربع کعبة"، وقال مقاتل: "سميت کعبة لانفرادها من البناء، وقيل سميت کعبة لارتفاعها من الأرض"[8]، وقال ابن الأثير: "کل شيء علا وارتفع فهو کعب، ومنه سميت الکعبة للبيت الحرام، وقيل سميت به لتکعيبها، أي تربيعها"[9].
وتنفيذاً لأمر الله تعالى، فقد قام إبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت، وکذلک القيام على خدمته، ليکون موئلاً للطائفين والعاکفين والرکع السجود، مصداقاً لقول الحق تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاکفين والرکع السجود"[10].
وکذلک فيرجع تاريخ عمارة مکة المکرمة إلى عهد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، والذي قدره الأزرقي بسنة 1892 قبل الميلاد[11].
ونظراً لأهمية مکة المکرمة الفائقة، ولکونها أهم مواضع الحضر في الحجاز على الإطلاق[12]، فقد حظيت وشؤونها بعناية واهتمام المؤرخين، القدامى منهم والمحدثين، وهکذا فقد توافر لدينا ألوان من المصادر التي قدمت لنا الکثير من المعلومات عن تاريخ هذه البقعة الشريفة، وإن شابها في أحايين متفرقة بعض من الاختلاف، اليسير أو البين، إلا أنها مجتمعة قدمت لنا صورة جلية لکيفية الأوضاع السائدة في مکة، وفصلت لنا الکثير مما يخص الکعبة المشرفة وعمارتها، ومنها باب الکعبة المشرفة، ويرتبط به أقفاله ومفتاحيه.
ويبدو أن إبراهيم الخليل - عليه السلام - لما نال شرف بناء الکعبة المشرفة[13] فإنه قد بناها بالرضم، حجارة بعضها فوق بعض، من غير طين ولا نورة[14]، ولم يجعل لها سقفاً[15]، وأنه کذلک قد جعل لها بابين اثنين، ملاصقين للأرض، أولهما في الجهة الشرقية مما يلي الحجر الأسود، والآخر من الجهة الغربية مما يلي الحجر اليماني، على سمت الباب الشرقي[16]، ويدعم ذلک ما رواه البخاري في صحيحه قال: "حدثنا يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة، لولا أن قومک حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، شرقياً وغربياً، فبلغت به أساس إبراهيم"[17].
وحفر إبراهيم عليه السلام في داخل البيت بئراً، تکون خزانة له، وأشار إليه الأزرقي بقوله : "وحفر إبراهيم عليه السلام جباً في بطن البيت، على يمين من دخله، يکون خزانة للبيت، يلقى فيها ما يهدى للکعبة"[18]، ولم يجعل الخليل عليه السلام على البيت سقفاً، ولا وضع على بابيه أبواباً تفتح وتغلق[19].
وروى الأزرقي عن ابن إسحاق أن الخليل عليه السلام "جعل الباب (أي موضع فتحة باب الکعبة) لاصقاً بالأرض، غير مرتفع عنها ولا مبوب"[20].
وهکذا، فقد کان بناؤه عليه السلام مثالاً للبساطة التامة[21]، فلم تکن الحاجة ماسة آنذاک لکي يقوم بصناعة باب للکعبة، وهي بدون سقف يحمي ما بداخلها، فما دام بناؤه لها کان على هذه الصفة فلا ضرورة لوضع باب (حقيقي) عليها[22]، ولذا فقد کان الباب وقتها لا يعدو کونه مجرد فتحة فقط في البناء، للدخول والخروج منها، وهذه الفتحة تمثل المکان الذي يدخل منه إلى جوف الکعبة، لأن الحاجة لم تکن ماسة آنذاک لکي يقوم بصناعة باب للکعبة[23]، أي أن هيئة باب الکعبة المشرفة في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام لم يکن يعدو کونها فتحة فقط بدون مصراع، وبالتأکيد فلم يکن هناک قفل ولا مفتاح.
وحظي البيت العتيق، منذ أن أمر الله تعالى نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام برفع قواعده، بکل التعظيم والرعاية والاهتمام، بعمارته وکسوته وتطييبه.
ولما کان لباب الکعبة المشرفة من مکانة خاصة ومنزلة کبيرة، فإنه قد خصصت له منذ زمن بعيد وظيفة مهمة من وظائف خدمة الکعبة المشرفة، وهي وظيفة السدانة أو الحجابة[24]، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود البيت العتيق، ويرجع تاريخها إلى بناء إبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام، حيث کانت بيد إسماعيل عليه السلام، فهو حارسها ومسؤول عنها.
وتدخل مهمة حامل مفتاح الکعبة المشرفة ضمن المهام الرئيسية لسدانة الکعبة، ويقصد بها خدمتها والقيام بجميع أمورها من فتحها وإغلاقها وتنظيفها وغسلها وکسوتها، وإصلاح هذه الکسوة إذا تمزقت، واستقبال زوارها، وأيضاً کل ما يتعلق بذلک، وهي الحجابة[25]، ويعرفون بالحجبة، لأنهم يحجبون الکعبة عن العامة[26].
وظلت الکعبة المشرفة بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حرماً آمناً، يقدسه العرب، على أنه البيت الحرام الذي بناه أبوهم إبراهيم وولده إسماعيل[27]، بأمر من الله تعالى، فالکعبة المشرفة تهوي إليها أفئدة الناس في کل زمان ومکان، وامتد تقديس العرب للکعبة إلى تقديس مکة، وأيضاً المناطق المجاورة لها، حتى أصبحت الأراضي الممتدة حولها إلى عدة فراسخ حراماً، لا يجوز الاعتداء فيها على إنسان أو حيوان، وکذلک امتد تقديس الکعبة إلى بعض الأمم الأخرى، کالهنود والفرس[28]، وازدادت مکانة مکة المکرمة والکعبة المشرفة قدسية ورفعة بعد ظهور نور الإسلام، حيث أصبحت الرسالة عالمية.
وبعد وفاة إسماعيل عليه السلام، فقد صارت سدانة (حجابة) الکعبة المعظمة لولده نابت بن إسماعيل[29] وأبناءه من بعده.
ومع أن بناء الکعبة المشرفة الحالي ليس هو البناء الأول لها، فعلى حسب روايات التاريخ فإنها هدمت وبنيت على الأقل عشر مرات في الجاهلية في رأي النهروالي[30]، وإن کان الفاسي قد ذکر أنه اختلف في عدد مرات بناءها، ويتحصل من مجموع ما قيل في ذلک أنها بنيت عشر مرات[31]، وذکر الطبري أنها بنيت طوال تاريخها إحدى عشرة مرة[32]، وقال السهيلي خمس مرات[33]، ربما بسبب السيول التي کانت تحدث في مکة من وقت لآخر[34]، وإن کانت في کل مرة تبنى على نسق بنائها الأول.
وبما أنها بيت، فقد کان للکعبة المشرفة ما للبيت من باب، وحتى قفل ومفتاح، ومن أبرز مظاهر عمارتها الاهتمام ببابها، وأيضاً بقفلها ومفتاحها، ومفتاح الکعبة المشرفة له نسخة واحدة فقط، تقتصر على شخص واحد هو السادن الأکبر للبيت[35]، وکان باب الکعبة المشرفة، مثل بقية أجزائها الأخرى، له قدسية، فوصف بـ"الباب الکريم"، أو "الکريم" فقط[36]، مثلما وصفت الکعبة بالشريفة.
وتعددت روايات المؤرخين والباحثين في عدد الأبواب التي عملت من أجل الکعبة المشرفة طوال تاريخها، في الجاهلية والإسلام، وکذلک فقد اختلفت فيها، کما اختلفت أيضاً الروايات الإخبارية في أول من جعل الأبواب للکعبة، ومن خلال الروايات التاريخية والمصادر الموثوقة، فقد أمکننا حصر ثلاثة أبواب عملت من أجل أن ترکب على الکعبة المشرفة قبل الإسلام.



[1] عن الکعبة المشرفة وأسماءها قبل الإسلام، انظر: عبد القدوس الأنصاري: التاريخ المفصل للکعبة المشرفة قبل الإسلام، نادي مکة الثقافي الأدبي، مکة المکرمة 1418-1419هـ، ص 8-21.


[2] سورة آل عمران : الآية 96.


[3] حسين بن عبد الله با سلامة: تاريخ الکعبة المعظمة، عمارتها وکسوتها وسدنتها، تحقيق: الدکتور يوسف بن علي بن رابغ الثقفي، مکة المکرمة 1419هـ/ 1999م، ص 42.


[4] أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن کثير: البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن الترکي، الطبعة الأولى، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة 1418هـ/ 1997م، ص 163؛ محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الکريم، الجزء الأول، في بلاد العرب، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1408هـ/ 1988م، ص 185.


[5] حسين با سلامة: الکعبة المعظمة، ص 13.


[6] هذه العمارات هي: بناء الملائکة، وبناء آدم عليه السلام، وبناء ولد آدم. انظر: أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (ت نحو 250هـ): أخبار مکة وما جاء فيها من الآثار، تحقيق: رشدي الصالح ملحس، الطبعة التاسعة، دار الثقافة للطباعة، مکة المکرمة 1421هـ/ 2001م، 1/  34، 43، 50.


[7] محمد فخر الدين بن ضياء الدين عمر الفخر الرازي: تفسير الرازي المشتهر بالتفسير الکبير ومفاتيح الغيب، دار الفکر، بيروت 1410هـ/ 1990م، 8/ 143.


[8] أبو محمد الحسين الفراء البغوي الشافعي: تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل، بهامش تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل، المکتبة التجارية الکبرى، توزيع دار الفکر، بيروت د.ت، 1/ 457.


[9] مجد الدين أبو السعادات المبارک ابن محمد الجزري ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر: تحقيق: محمود محمد الطناحي، دار إحياء التراث، بيروت د.ت، 4/ 179.


[10] سورة البقرة : الآية 125.


[11] الأزرقي: أخبار مکة 1/ 5.


[12] محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم، دار المعرفة الجامعية، الإسکندرية 1998، ص 391.


[13] أبو القاسم زين العابدين: الکعبة والحج في العصور المختلفة، مع أهم مناسک الحج على المذاهب الأربعة، مکة المکرمة 1406هـ/ 1986م، ص 54.


[14] المأموني إبراهيم: تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام (مخطوط)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض؛ محمد النهروالي: الإعلام بأعلام بيت الله الحرام، ص 144.


[15] محمد علان بن عبد الملک بن علان البکري الصديقي المکي: مثير شوق الأنام إلى حج بيت الله الحرام، دار القاهرة وزهراء الشرق، القاهرة 2006م، ص 27.


[16] أحمد السيد دراج: الکعبة المشرفة سرة الأرض ووسط الدنيا، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1420ه/1999م، ص 56-57.


[17] رواه البخاري في صحيحه في کتاب الحج، باب فضل مکة وبنيانها (1507)؛ ومسلم في صحيحه في کتاب الحج، باب جدر الکعبة وبابها (2727)؛ صالح بن حميد: تاريخ أمة 1/ 47، هامش رقم 3؛ وانظر: ابن حجر: فتح الباري، جـ7، ص 232، (1586).


[18] الأزرقي: أخبار مکة 1/ 62.


[19] حسين با سلامة: الکعبة المعظمة، ص 82؛ علي الخربوطلي: تاريخ الکعبة، ص 24.


[20] الأزرقي: أخبار مکة 1/ 64-65.


[21] عبد الملک بن عبد الله دهيش، الحرم المکي الشريف والأعلام المحيطة به، دراسة تاريخية وميدانية، مکة المکرمة 1415هـ/ 1995م، ص 120.


[22] محمد طاهر الکردي المکي: التاريخ القويم لمکة وبيت الله الکريم، الجزء الخامس، تحقيق: الدکتور عبد الملک بن عبد الله بن دهيش، دار خضر، بيروت 1420هـ/ 2000م، ص 51.


[23] ناصر بن علي الحارثي: باب الکعبة المشرفة في عهد الملک عبد العزيز، مجلة الدارة، العدد الرابع، السنة الثامنة والعشرون، 1423هـ/ 2002م، ص 56.


[24] عبد المنعم ماجد: أقفال ومفاتيح الکعبة، ص 107.


[25] طلحة حسن الشيبي: تحقيق المرام في تاريخ البيت الحرام، الطبعة الأولى، مکة المکرمة 1415هـ، ص 99؛ محمد الشرقاوي ومحمد الطحلاوي: الکعبة المشرفة، ص 73.


[26] حسين با سلامة: الکعبة المعظمة، ص 363، هامش رقم 1.


[27] محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الکريم 1/ 197.


[28] علي حسني الخربوطلي: تاريخ الکعبة، دار الجيل، بيروت 1411هـ/ 1991م، ص 26.


[29] حسين با سلامة: الکعبة المعظمة، ص 363.


[30] محمد بن أحمد النهروالي: الإعلام بأعلام بيت الله الحرام، مکتبة الثقافة الدينية، القاهرة 1425هـ، ص 33 وما بعدها.


[31] أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، حققه ووضع فهارسه: عمر عبد السلام تدمري، الطبعة الأولى، دار الکتاب العربي، بيروت 1405هـ/ 1985م، 1/ 196.


[32] علي بن عبد القادر الطبري: الأرج المسکي في التاريخ المکي، تحقيق: محمد بن صالح بن عبد الله الطاسان، رسالة دکتوراه غير منشورة مقدمة إلى جامعة أدنبرا ببريطانيا 1979م، ومخطوط مکتبة الحرم المکي (3426)، ص 142-143.


[33] أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: عبد الرحمن الوکيل، دار النصر للطباعة، القاهرة 1387هـ/ 1967م، 1/ 221.


[34] حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: وسال وادي مکة في الاسلام بأسيال عظام مشهورة عند أهل مکة. الأزرقي: أخبار مکة 1/ 259.


[35] جريدة الجزيرة: العدد 3386 الجمعة 15 صفر 1402هـ/ 12 ديسمبر 1981م، ص 6.


[36] أبو الحسن محمد بن أحمد ابن جبير: رحلة ابن جبير (رسالة اعتبار الناسک في ذکر الآثار الکريمة والمناسک)، الطبعة الثانية، دار مکتبة الهلال، بيروت 1986م، ص 57.

الموضوعات الرئيسية